الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (158): {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}{قُلْ يا* أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلى الله عليه وسلم وشرف من يتبعه على ما عرفت، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا اتباعه وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة، وقيل: إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنًا من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك، والمفهوم فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر {الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} في موضع نصب باضمار أعني أو نحوه أو رفع على إضمار هو.وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه، واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما، وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، وقيل: هو مبتدأ خبره {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلًا من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل اشتمال، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينًا للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلًا عليه أيضًا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إنه غيره لكان له ذلك، واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي، وقوله سبحانه: {يُحْيىِ وَيُمِيتُ} لزيادة تقرير إلهيته سبحانه، وقيل: لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه: {قُلْ ياأيها الناس} لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة للمبالغة في إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى: {النبى الامى} لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين {الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته} ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه، وقرئ {وَكَلِمَتُهُ} على أرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روى ذلك عن مجاهد تعريضًا لليهود وتنبيهًا على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه، والاتيان بهذا الوصف تحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالايمان بالله تعالى للتبيه على أن الأيمان به سبحانه لا ينفك عن الايمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في ههذ الآية من إظهار النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات وإجراء هاتيك الصفات {واتبعوه} أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو زاجين له، وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقة ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه الضلال..تفسير الآية رقم (159): {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}{وَمِن قَوْمِ مُوسَى} يعني بني إسرائيل {أُمَّةٍ} جماعة عظيمة {يَهْدُونَ} الناس {بالحق} أي محقين على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للآلة والجار لغو {وَبِهِ} أي بالحق {يَعْدِلُونَ} في الأحكام الجارية فيما بينهم، وصيغة المضارع في الفعلين للإيذان بالاستمرار التجديدي، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلى الله عليه وسلم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والايمان بالآيات تبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام في كل خير وبيان إن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانًا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله: {أَتُهْلِكُنَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} [الأعراف: 155] فيه تنيص على أن من القوم من لم يفعل، وقيل: أناس وجدوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم موصوفون بذلك كعبد الله بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا} إلى قوله سبحانه: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الامى} [الأعراف: 156، 157] إلخ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى: {قُلْ يا* أَيُّهَا الناس} [الأعراف: 158] إلخ وقوله سبحانه: {فَئَامِنُواْ} [الأعراف: 158] إلخ عقب ذلك بقوله عز شأنه: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى} إلخ، والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود ويقولون لهم: هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبًا عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم ولا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضًا بالأكثر.واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة، وأيضًا إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لاسيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاحتلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل: إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين.نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر، وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون أيضًا، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطًا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقًا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال: إنهم ساروا في السرب سنة ونصفًا.وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهر أو جعل لهم مصباحًا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبريل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة، وعن الكلبي. والضحاك. والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت كة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرؤه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة والسلام اللاسم، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل يجري، وضعف هذه الحكمة ابن الخازن وأنا لا أراها شيئًا ولا أظنك تجد لها سندًا يعول عليهم ولو ابتغيت نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء.هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {قَالَ يَا* موسى إِنّى اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وبكلامي} دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية {فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ} بالتمكين {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} [الأعراف: 144] بالاستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلا منها.وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الالواح} أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب العقل والفكر والخيال فظهر فيها {مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي بعزم لتكون من ذويه {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي أكثرها نفعًا وهي العزائم {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} [الأعراف: 145] أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك {سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [الأعراف: 146] هم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابًا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذي فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا حجوبين ولا يعد تكبرهم مذمومًا لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرًا له.{والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الاخرة} [الأعراف: 147] حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئًا {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلًا} صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهبًا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه: {جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم {وَأَلْقَى الالواح} أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافي عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلًا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} يجره إليه ظنًا أنه قصر في كفهم.{قَالَ ابن أُمَّ} [الأعراف: 150] ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوي بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودًا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ} بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلًا إلى الحق {اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين} [الأعراف: 148] حيث عدلوا عن عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندموا عند جروع موسى الروح {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بجذبات العناية {وَيَغْفِرْ لَنَا} بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحاته وتعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 149] رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} وهم الأوصاف الإنسانية {غضبان} مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا {أَسَفًا} على ما فات لها من عبادة الحق {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} حيث لم تسيروا سيري {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى: {وَأَلْقَى الالواح} أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} وهو القلب يجره إليه قسرًا، {قَالَ ابن أُمَّ} ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخلق لأنهما في عالم الخلق {إِنَّ القوم} أي أوصاف البشرية {استضعفونى} عند غيبتك {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية{فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} [الأعراف: 150] وهم وهم، وهذا ما يقتضيه مقام الفرق، قال: رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين} [الأعراف: 151] لأن كل رحمة فهو شعاع نور رحمتك {إِنَّ الذين اتخذوا العجل} أي عجل الدنيا إلهًا {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ} وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم {وكذلك نَجْزِى المفترين} [الأعراف: 152] الذين يفترون على الله تعالى فيثبتون وجودًا لما سواه، {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ} رجعوا إليه سبحانه وتعالى جاهدة نفوسهم وإفنائها إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم {رحيم} [الأعراف: 153] فيفيض عليهم من صفاته ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق {وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] يخافون لحسن استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لميقاتنا} إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلًا من أشراف قومه ونجباءهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهوره طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرًا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، ورا يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون: إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهني سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعًا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادرًا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمر من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سدًا لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلى به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب مه ذلك الحال كمن به حكة لا يصبر معها على عدم الحك.وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلى بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال: فرع لو ابتلى بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلى بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور، وقال أيضًا: إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلامًا أو قصد محاكاة بعضهم أصوات الحيوانات وإن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغى التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطراز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية. قال موسى: {رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى} وذلك من شدة غلبته الشوق، و{لَوْ} هذه للتمني، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق. خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى: {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} [الأعراف: 156] بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيدًا والقوم يقولون نراه قريبًا، وقالوا: الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري، وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات، واختير هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونه.
|